دروس مقياس : مدخل الى الأدب المغاربي المكتوب باللغة الاجنبية

الفئة المستهدفة: السنة الثانية

الأستاذ: عمور إبراهيم

التطبيق الأول: مولود فرعون

 

شكلت الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ظاهرة ثقافية ولغوية متميزة وأثارت بذلك حولها جدلاً كبيراًً بين النقاد والدارسين، منهم من عدها رواية عربية باعتبار مضامينها الفكرية والاجتماعية، والكثرة عدّوها رواية جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية، باعتبار أن اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي بها يكتسب الأدب هويته، ثم إن الكتابة الروائية بالفرنسية قد ساهمت في نمو الأدب الفرنسي، أكثر ما ساهمت في إخصاب الأدب العربي، ولذا فنحن حينها نقف عند هذه الظاهرة المتميزة، فإننا لا نفعل أكثر من إعطاء فكرة عن نشأة هذا الفن في ظروف حرجة في الجزائر أو في المغرب العربي عموماً.

1-مولود فرعون:

فمولود فرعون وليد القرية وابن الفلاّح، كاتب جزائريّ جعل من الفرنسيّة لغة كتاباته، بعيدًا عن الإيحاءات التي اعتادتها الثقافة التّقليديّة للشّرق الأسطوريّ، اعتنى بأن يكون بواقعيّته شاهد زمانه وكاتب على تمزّقات الجزائر الحديثة. هو كاتب لم يغب عن الجزائر ولو للحظة واحدة.

ولد الطفل ” فورولو “ في 1913 لأب فلاح، بتيزي هيبل (بني دوالة) قرية من قرى القبائل، عرف طفولة سادتها أجواءُ الشّقاء، حصل على منحة مكّنته من متابعة تكوينًا توّجهُ بشهادة معلِّم، فمارس التّعليم في الابتدائيّة، وتقلّد منصب المدير لإحدى المدارس، اغتيل بصورة وحشيّة نكراء بالجزائر العاصمة من قبل  l’O.A.Sعندما كان مسئولاً موظّفًا كمفتِّش في المركز اجتماعيّة.

وفي طفولته هاجر مع والده الذي اضطرته ظروف الحياة للعمل في فرنسا ، وبفضل منحة دراسية قدر له أن يلتحق بمدرسة متوسطة ثم بدار المعلمين العليا بالجزائر، وعندما تخرج عين معلماً في مسقط رأسه ولم يترك منطقة القبائل إلا في عام 1957 ليعيّن مديراً في العاصمة وفي 15 مارس 1962 استشهد فرعون برصاص المنظمة السرية الإرهابية مع مجموعة من زملائه.

تجمع شخصية فرعون بين المناضل والفنان، وفي روايته الأولى :« ابن الفقير » يتحدث عن طفولته التي صيغت من لهيب الحرمان في قرية جبلية فيها أحداث شبابه وحياته ونضاله من أجل المعرفة . ويستعرض من خلال ذكرياته مأساة الفلاحين الكادحين الذين يعملون في أرض جبلية ولا يحصدون بعد الكد إلا السقم والجوع لأن الغرباء استولوا على المزارع واحتكروا الري والماء.

 

 

       وفي سنة 1953 ظهرت له رواية«  الأرض والدم»، التي فازت بجائزة الأدب الشعبي في فرنسا عام 1953 منتزعاً بها الجائزة من خمسين كاتباً فرنسياً . تناولت ثالث روايته « الدروب الصاعدة » 1957 مأساة الجزائري، وتألف إحساسه القومي حيث يعود الجزائري إلى مكانه الطبيعي فوق الأرض وإلى مستوياته النفسية. وأخيراً نشرت روايته« الذكرى» عام 1972.

وله بالإضافة إلى هذه الروايات مجموعة أبحاث اجتماعية جمعها في كتاب تحت اسم « أيام القبائل » ، وكتاب نشر بعد وفاته هو عبارة عن مذكرات شخصية ، وهذه المذكرات تعتبر وثيقة هامة تؤرخ لفترة من عمر الثورة الجزائرية من عام 1955 حتى عام 1962 ، كتبها فنان لم يترك أرض المعركة دقيقة واحدة.

اهتمّ الكاتب فرعون بوصف معاناة الشّعب، وهي معاناة لم تجعل هذا الأخير يتخلّى عن عظمته، فطفحت صوّر قصصه بأوصاف القبائل وبجماليّة لا حدّ لها. إذا بدا أنّ الكاتب مهتمًّا بكشف جرائم الاحتلال الفرنسيّ، فقد كان شغوفًا بتشخيص الصعوبات التي يواجهها شعبه من أجل التّوفيق بين تمسّكه بالتّقاليد وبالإسلام، وبين إعجابه أمام التّقدّم الذي مثّله العالم الغربيّ من جهة أخرى.

كانت قصصه مثلاً للدّقة المتناهية في التصوير. اقتربت واقعيّته بالتّدقيق التوثيقيّ التّاريخي. وما مثّل ذلك أحسن تمثيل سيرته الذاتية، نجل الفقير (1950)، الذي عرف شهرة بالغة ونشر على أسع نطاق، حيث ترصّد الصّعوبات الحائرة التي تقف عقبة أمام التعلّم والتكوين في جزائر الثلاثينيات؛ وهما حقان مهضومان، وهضمهما أظهر المستعمر في صورته القاسية.

ويعد فرعون أحد أكبر كتاب المغرب العربي ذوي التعبير الفرنسي شهرة، لقد كانت « نجل الفقير » روايته الأولى ولا تزال، أول عمل أدبي يبدأ به كل تلميذ جزائري اطلاعه على الأدب الوطني. وكان فرعون يلفت انتباه مواطنيه كلما أصدر كتاباً جديداً وكان آنذاك معلماً قروياً، انتقل للعمل في العاصمة قبيل هلاكه المأساوي على يدي غلاة الاستعمار الحانقين. وقد حاز إبداعه شيئاً فشيئاً على شهرة واسعة، ليس في وطنه فحسب بل في فرنسا كذلك، وترك موت الكاتب أثراً فاجعاً في قلوب كل الناس من ذوي الإرادة الطيبة. ساهم مولود فرعون كثيراً في دعم القضية الوطنية، وإيقاظ الوعي للشعب الجزائري، الذي هب لمعركته الخيرة والحاسمة ضد الاستعمار.

إثر اغتيال مولود فرعون، صرح جان عميروش في استجواب له، لقد كانت جريمة المغتال الرئيسية هي رغبته في رؤية الإنسان سعيداً، يحمل باعتزاز اسمه الخاص، وسعيداً بتمتعه بوطنه، ومؤمناً بمستقبله ويمكن كل ابن فقير من أن يقرر مصيره.

ويكمن في هذه الكلمات الثلاث (الحرية، الرسم، الوطن) مغزى وهدف إبداع كتاب شمال إفريقيا. الذين فرعون ينتمي إلى جيلهم. اغتالته المنظمة الإرهابية السرية، التي كانت تعمل من أجل جزائر فرنسية في حي الأبيار، وهكذا انتهت الحرب من أجل الاستقلال، التي دامت سبع سنوات، بشكل مأساوي بالنسبة لفرعون، قبل ثلاثة أيام من توقيع اتفاقية أيفيان، ودفن يوم 18 مارس 1962. ويذكر إيمانويل روبلس، وهو كاتب من الجزائر من أصل فرنسي، كان صديقاً لفرعون ودرس معه في معهد بوزريعة، كما قدم له دعماً ومساعدة ثمينتين، حين أجبره على «الشروع في الكتابة»، يذكر أن فرعون لم يكن إنساناً طيباً وهادئاً فحسب، بل أهم من ذلك مثقفاً« كان يقرأ أكثر منا جميعاً، وكان يلتهم الكتب ببساطة، كان يضمر الإجلال للكتاب الروس، ويحب فرنسيي القرن الثامن عشر، ثم بعد ذلك كشفت له الأمريكيين».

وما يشهده على أن الكتاب الروس، كانوا من ضمن من أحبهم فرعون، كونه استهل أول تجربة أدبية له، وهي رواية« نجل الفقير » بكلمات انطون تشيكوف« سنعمل للآخرين الآن، وفي شيخوختنا من دون أن نعرف سبباً للراحة، وحينما تحل ساعتنا سنموت بخنوع، وسنقول هنالك في لحدنا بأننا تعذبنا وبكينا وتجرعنا المرارة، حينذاك سيهبنا الله من لدنه الرحمة». لقد كانت جمل تشيخوف، مفعمة بمعنى واقعي بالنسبة لفرعون، الذي كان يعي هكذا بالضبط مغزى وغاية إبداعه وعمله الصعب والنبيل لخير وطنه.

كتب مولود فرعون في« ابن الفقير»، مبيناً كيف يتكون« الطبع الحقيقي» للرجل القبائلي، حيث يولد الطفل في هذه المنطقة، من أجل المعركة في سبيل الحياة. وتشكل فلسفة وحكمة الحياة وعاداتها ومعتقداتها وشعائرها القديمة ، ذلك العالم الخاص والأصيل الذي تمثله قرية تيزي، حيث شب ابن الفقير« فورلو»، وهي في الوقت ذاته ذلك العالم النموذجي لقرية قبائلية نموذجية. وهذا العالم لا يزال في الرواية يحيا أساساً وفق سنن موروثة من الماضي البعيد، حيث تسود أخلاق وأنماط حياة الأجداد، وحيث لا يزال كل واحد يؤمن بالقدر. غير أن الشكل الثاني من الصراع هو صراع من أجل إجادة لغة غريبة وثقافة غريبة، والدراسة في ثانوية فرنسية حيث يشعر دائماً بنفسه غريباً، ويشعر بالخوف من الطرد بسبب إخفاق عارض ويصمم« فورلو» على لقاء هذا العالم الذي يجهله، وهذه الحياة الغريبة عنه:« وحدي، وحدي في هذه المعركة الرهيبة التي لا ترحم...».

تعتبر رواية نجل الفقير إلى حد بعيد سيرة ذاتية، تصف طفولة الكاتب ومراهقته، كما تغطي الرواية السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، لتصل نهاية العشرينات.

وتناول فرعون في رواية« الأرض والدم» أول مرحلة من عملية هجرة شمال أفريقيا للعمل بسبب الوضع الشاق للعمال والفلاحين في المستعمرات، التي بدأت بشكل مكثف من العشرية الأولى من القرن العشرين. وإذا كانت الهجرة الاضطرارية مرتبطة في البداية بالمعاناة الشاقة لفراق الأرض الأصيلة، فإن الأمر أصبح شيئاً فشيئاً عادياً، أملاً في الكسب السهل في فرنسا. وحدث أن العودة إلى القرية كانت مرفوقة بصدمة نفسية, فقد كان الإحساس بالفرق بين العالم المهجور –عالم الغرب- والعالم التقليدي- الوطن- وهكذا يعود عامر في رواية« الأرض والدم» إلى موطنه رفقة زوجته الفرنسية الشابة، بعد أن اشتغل سنوات عدة  في فرنسا، وجرب كل أنواع الحرمان، التي كانت من نصيب المغتربين في أوروبا، لكنه لا يستطيع مدة طويلة، أن يتأقلم مع حياة قريته الصغيرة، التي بدت له متخلفة ومتوحشة، واحتاج إلى عامين كي يصبح قبائلياً من جديد، وكأنه لم ير الكثير في حياته، ولم تحنكه الصعاب، ولم يواجه الموت.

تقع أحداث الأرض والدم في الفترة الواقعة ما بين الحربين العالميتين، وتنتهي في عام 1930، ويفاجأ عامر بالحرب حالما يصل إلى فرنسا. ونشعر بأنفاس ريح التغيير، وريح التاريخ، ابتداء من الصفحات الأولى في رواية« الدروب الصاعدة»، التي تبرز ذلك العالم المنغلق، الذي لم يمسسه الزمن، وهو ينسف تحت هجوم العصر، وللطبيعة الشاقة والمأساوية أحياناً لتأثير هذا الصدام بين الجديد والقديم في وعي الناس وسلوكهم. والرواية دراما عاطفية، حيث نجد مثقفاً قروياً، منعزلا في قرية قبائلية نائية، ومنفصلاً عن العالم، وبعيداً عن التاريخ، نجده يكتب مذكرات لا حاجة لأحد بها في وقت يقوم فيه جميع المثقفين الجزائريين بالثورة، والرواية تصور حيرة وارتباك جيل نضج. ويستمر فرعون في الدروب الصاعدة، يصور عالم القيم القديمة المتفجر، في تغذية الأمل في الأشكال الإنسانية للتخلص من العبودية.

وتعتبر الدروب الصاعدة امتداداً للرواية الثانية، وإن كان هناك انقطاع في الوقت، حيث أن يوميات عامر ترجع في تاريخها إلى الخمسينات، وتعتبر بمثابة سنوات اليقظة بالنسبة للجزائريين، أي بداية الثورة ونهاية صدام الحضارات، وكذلك بمثابة بوتقة تذوب فيها خيبة أمل الإنسان الجزائري وسخطه وعدم رضاه.

وسيظل فرعون ممثلاً نموذجياً لجيله، جمع فعلاً في ذاته« عالمين وثقافتين » ومثالاً للفنان المخلص والشجاع، الذي نجد في إبداعه محاولة جدية لتصوير حياة وطنه، وشعبه بموضوعية، وطرح المشكلات والمتناقضات التي زخرت بها مرحلة يقظة الوعي الوطني للجزائريين تلك المرحلة المرتبطة بالكفاح من أجل الاستقلال، وتحليل أنماط العلاقات، بين الرجل والمرأة، ضمن الأسرة والعائلة فالمجتمع، والبيئة النّفسيّة للفرد، ويأبى إلاّ أن يحلِّل، ولا يكتفي بتسجيل، يسجِّل تخلفه الذي يتنزّه من الادّعاءات التي توعز ذلك إلى ما هو وراثيّ، ولا يتباهى، ولا يدنو من موضوعاتٍ تجعل من فئةٍ معيّنة من القرّاء ينفرون من قراءته، الفروق المزعومة بين المكونات السكانية للجزائر، مثل الاختلافات العرقية داخل جماعات البربر، وبينها وبين جماعات العرب، وخضوع الجميع للقوة وحدها، واستحكام التعصب الديني المؤدي إلى الانغلاق، والعنف، والعدوانية.