مقدمة :
تتبوأ الأنثروبولوجیا كعلم حدیث النشأة مكانة كبیرة بین العلوم الیوم، نظرا لما تتمیز به من
خصائص، ولما تتمتع به موضوعاتها من جاذبیةوإ غراء خاصة أن موضوع الدراسة الأساسي هو
الإنسان في صوره الثقافیة المختلفة وأنماطه التفاعلیة المتعددة، فلقد كان الإنسان المختلف عن
"إنسان المركز" (الإنسان الأوروبي) هو الذي هیأ الأساس الأول لعلم الإنسان، حیث كان هاجس
تكوین معرفة بأولئك البرابرة والهمج والذین لم یعرفوا للحضارة سبیلا بعد، هو المسیطر على عقول
الباحثین الأوائل في مجال الأنثروبولوجیا، هذا الذي یدل على أن الأنثروبولوجیا نشأت في سیاق
حملات الاستعمار للبلدان والشعوب الأخرى حیث مثلت بامتیاز الدرع الأیدیولوجي الذي رافق
السیف والبندقیة خلال حملات السیطرة على الشعوب والأوطان، لكن هذا لم یمنع الأنثروبولوجیا
كعلم من التطور في جانبیها النظري والمنهجي خاصة مع زیادة الاهتمام بها من الناحیة الأكادیمیة
فأصبحت لا تختلف عن باقي العلوم الأخرى الطبیعیة منها والاجتماعیة، بل وتتعداها خاصة عند
التركیز على بعض المواضیع الجوهریة التي تتصل بالجانب الرمزي والأخلاقي.
وسنحاول من خلال هذه المطبوعة أن نلقي الضوء على بعض الجوانب الأساسیة لهذا
العلم بغیة إیضاح ماهیته وموضوعه وطریقة عمله، هذا الذي سنتطرق إلیه من خلال بعض
العناصر التي بدت لنا جوهریة في هذا السبیل مثل توضیح المقصود بمفهوم الأنثروبولوجیا وبعض
المفاهیم القریبة منه، وكذلك علاقة الأنثروبولوجیا بالعدید من العلوم الطبیعیة منها والاجتماعیة
والتي ساهم بعضها بشكل واضح في إرساء دعائم هذا العلم ومنها على وجه الخصوص البیولوجیا
من ناحیة العلوم الطبیعیة وعلم الاجتماع من ناحیة العلوم الاجتماعیة.
كما سنحاول أیضا استقصاء وتتبع الممارسة الأنثروبولوجیة خلال مختلف العصور قبل
النشأة العلمیة وصولا إلى مرحة النشأة خلال القرن التاسع عشر محاولین في السیاق ذاته إلقاء
الضوء على مختلف التیارات والنظریات والمناهج المستخدمة في الدراسات الأنثروبولوجیة بعد
استوائها كعلم قائم بذاته وطبیعة الموضوعات التي تشكل جوهر الدراسة الأنثروبولوجیة

مفهوم الأنثروبولوجیا وبعض المفاهیم القریبة(الإثنولوجیا – الإثنوغرافیا – الأركیولوجیا –
اللغویات..)
إلى علم الإنسان، فالمصطلح "منحوت من (anthropologie) یشیر مصطلح أنثروبولوجیا
،( علم)، وتعنیان معا (علم الإنسان) " ( 1 ) logos إنسان) و ) anthropos كلمتین (یونانیتین) هما
أي العلم الذي یدرس الإنسان، وكلمة إنسان هنا مطلقة لذلك كان هذا العلم شاملا في دراسته
لمختلف الجوانب التي تشكل الإنسان، ولهذا نجد سلیم شاكر یضیف إلى تعریف الإنثروبولوجیا من
الناحیة الاصطلاحیة تعریفا آخر أكثر عمقا وأوسع شمولا فیقول عن الأنثروبولوجیا بأنها: " علم
.( دراسة الإنسان طبیعیا واجتماعیا وحضاریا " ( 2
وبقدر ما اختصر سلیم شاكر تعریفه بقدر ما كان ملما بالجوانب التي یتناولها هذا العلم،
فعلم الإنسان (الأنثروبولوجیا) یتناول بالدراسة الجانب التطبیقي والبیولوجي للإنسان باعتباره كائنا
عضویا، فیصف تركیبته العضویة في الحاضر والغابر، ویقارن بین الخصائص الطبیعیة لإنسان
الیوم مع إنسان الحضارات القدیمة.
والأمر نفسه ینطبق على الجانب الاجتماعي والحضاري، ففي الجانب الاجتماعي نجد
الأنثروبولوجي یركز على البناء الاجتماعي محاولا فهم مختلف البنیات المكونة له والتي تتجسد في
مختلف النظم والمؤسسات الاجتماعیة كنظام الأسرة والاقتصاد والدین والقرابة والزواج...الخ، فهذه
النظم المشكلة للبناء الاجتماعي هي الموضوع الأساسي للأنثروبولوجیا في جانبها الاجتماعي، أما
الجانب الحضاري (الثقافي) فهو یشیر إلى اتجاه الأنثروبولوجي إلى محاولة فهم ثقافة الشعوب
بوصفها ومقارنة بعضها بالبعض الآخر.

ویقترب هذا التعریف من تعریف إدوارد تایلور الذي یرى أن الأنثروبولوجیا هي " الدراسة
البیو ثقافیة المقارنة للإنسان " ( 3)، هذا الذي یدل على أن الأنثروبولوجیا تجمع بین الدراسة

البیولوجیة والثقافیة للإنسان، مع وجود علاقة بین هذین الجانبین حیث تتأثر الجوانب البیولوجیة
وتأثر في النواحي الثقافیة من تعلیم وتنشئة اجتماعیة وطریقة تفكیر ونمط سلوك. ..الخ.
وتعرف الأنثروبولوجیا أیضا بأنها " العلم الذي یدرس الإنسان من حیث هو كائن عضوي
یعیش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعیة في ظل ثقافة محددة " ( 1)، بما یسمح لهذا الإنسان
بالتفاعل معه أفراد المجتمع في ظل النظم المختلفة التي تسوده، وبما یسمح كذلك بأن یعمل على
إنتاج ثقافة معینة والخضوع لها في نفس الوقت، هذه التي تتبدى في مختلف السلوكات والتصرفات
والعادات والتقالید ومختلف أنماط التفكیر وأسالیب الإنتاج. .الخ.
والتي تشكل في الأخیر موضوعات أساسیة للدراسة في مجال علم الإنسان
(الأنثروبولوجیا)، ولتقریب النظر أكثر نورد ما قالته الأنثروبولوجیة الأمریكیة " مارغریت مید" حول
مجال عمل الأنثروبولوجي : " نحن نصف الخصائص الإنسانیة، البیولوجیة، والثقافیة للنوع البشري
عبر الأزمان وفي سائر الأماكن، ونحلل الصفات البیولوجیة والثقافیة المحلیة كأنساق مترابطة
ومتغیرة، وذلك عن طریق نماذج ومقاییس ومناهج متطورة، كما نهتم بوصف وتحلیل النظم
الاجتماعیة والتكنلوجیا، ونعنى أیضا ببحث الإدراك العقلي للإنسان، وابتكاراته ومعتقداته ووسائل
اتصالاته. ." ( 2)، من خلال هذا الوصف الذي قدمته مارجریت مید یبدو أن الأنثروبولوجیا هي أحد
فروع الدراسة التي تهتم بوصف الإنسان في جانبه البیولوجي من جهة والاجتماعي والثقافي من
جهة ثانیة، مع اعتبار عملیات التفاعل التي تحدث بین هذین الجانبین، وكذلك عملیات التفاعل
التي تحدث داخل أحد هذین الجانبین منفردا، وهذه العملیة أیضا ووفقا للوصف الذي قدمته " مید"
لا تخلو من عملیة مقارنة، فالوصف یتضمن المقارنة بین مختلف الجوانب الموصوفة (عادات،
سلوكات، خصائص بیولوجیة. .الخ)، وكل هذا یتم بأسلوب علمي حیث ثمة أدوات قیاس علمیة
لتناول موضوعات هذا العلم.

ورغم وضوح مفهوم الأنثروبولوجیا إلا أن استخداماته تختلف من بلد لآخر ومن مدرسة لأخرى،
( ففي أمریكا نجد استخدامین أساسیین هما : ( 1
-1 الأنثروبولوجیا الجسمیة (الفیزیقیة): وتشیر إلى دراسة الجانب العضوي والحیوي
للإنسان.
-2 الأنثروبولوجیا الثقافیة : وتشیر إلى مجموعة التخصصات التي تدرس النواحي
الاجتماعیة والثقافیة لحیاة الإنسان.
( ویدخل في نطاق الأنثروبولوجیا الثقافیة مجموعة من الفروع الدراسیة وهي: ( 2
وهي تلك الدراسات التي تتعلق بحیاة الإنسان القدیم : (archéologie) -1 علم الآثار
(حضارات ماقبل التاریخ).
وتعنى بدراسة لغات الشعوب البدائیة واللهجات : (linguistiques) -2 علم اللغویات
المحلیة والتأثیرات المتبادلة بین اللغة والثقافة.
ویشیر إلى الدراسة الوصفیة لأسلوب الحیاة ومجموعة : (ethnographie) -3 الإثنوغرافیا
التقالید والعادات والقیم والأدوات والفنون، والمأثورات الشعبیة لدى جماعة معینة.
وتشیر إلى الدراسة التحلیلیة والمقارنة للمادة الإثنوغرافیة، : (ethnologie) -4 الإثنولوجیا
بغرض الوصول إلى تعمیمات حول مختلف النظم وأصولها وتطورها وتنوعها. .الخ.
وفي مقابل مفهوم " أنثروبولوجیا ثقافیة " الذي یتداوله الأمریكیون یستخدم الأنجلیز مصطلحا
آخر هو مصطلح " الأنثروبولوجیا الاجتماعیة"، فمهمة الأنثروبولوجیا الاجتماعیة مثلما یرى إیفانز
بریتشارد " أنها تدرس السلوك الاجتماعي الذي یتخذ في العادة شكل نظم اجتماعیة كالعائلة ونسق
القرابة والتنظیم السیاسي و الإجراءات القانونیة والعبادات الدینیة وغیرها، كما تدرس العلاقة بین
هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاریخیة التي یوجد لدینا عنها
معلومات مناسبة من هذا النوع، یمكن معها القیام بمثل هذه الدراسات " ، نفهم من هذا أن

الأنثروبولوجیا الاجتماعیة كمفهوم أساسي في التعبیر عن الجانب الاجتماعي والثقافي لدى
الأنجلیز لا یدرج علم اللغویات أو علم الآثار مثلما هي الحال في الأنثروبولوجیا الثقافیة لدى
الأمریكیین، ولكن التركیز منصب على ماهو اجتماعي، فوحدة التحلیل الأساسیة في الأنثروبولوجیا
الاجتماعیة هي المجتمع، أي العلاقات الاجتماعیة التي تشكل مختلف النظم والأنساق الاجتماعیة
ولیست الثقافة وأجزاؤها كما ینظر إلى ذلك الأمریكیون.
إن التركیز على قضیة النظم الاجتماعیة ینتج تخصصات أنثروبولوجیة بعدد هذه النظم ذاتها
فیكون لدینا مثلا :
نظام دیني أنثروبولوجیا دینیة
نظام تربوي أنثروبولوجیا تربویة
نظام سیاسي أنثروبولوجیا سیاسیة
نظام ثقافي أنثروبولوجیا ثقافیة
ویبدو أن الاختلاف في تحدید التسمیة هو اختلاف شكلي، فكل من الأنثروبولوجیا
الاجتماعیة أو الأنثروبولوجیا الثقافیة تؤولان إلى نفس المواضیع خلال عملیة الدراسة، وقد كان
الاختلاف مؤسسا مثلما یرى كلود لیفي ستروس على اعتبارات أكادیمیة، مثلما هو الحال بالنسبة
لمفهوم الأنثروبولوجیا الاجتماعیة الذي تأصل في أنجلترا لضرورة إحداث كرسي جدید تولاه جیمس
فرایزر، كما أن الاختلاف بین ماهو " اجتماعي " وماهو "ثقافي " لیس كبیرا. ، حیث یؤدي
ماهو اجتماعي إلى ماهو ثقافي والعكس، من منطلق أن ماهو اجتماعي یتصور موضوعه قائما
في البنیة الاجتماعیة الكلیة التي تتفكك إلى عناصر ثقافیة مكونة لها، وماهو ثقافي ینطلق من
هذه العناصر الثقافیة (سلوكات – عادات – وسائل...الخ) وصولا إلى البنیة الكلیة للمجتمع.

الأنثروبولوجیا الاجتماعیة كمفهوم أساسي في التعبیر عن الجانب الاجتماعي والثقافي لدى
الأنجلیز لا یدرج علم اللغویات أو علم الآثار مثلما هي الحال في الأنثروبولوجیا الثقافیة لدى
الأمریكیین، ولكن التركیز منصب على ماهو اجتماعي، فوحدة التحلیل الأساسیة في الأنثروبولوجیا
الاجتماعیة هي المجتمع، أي العلاقات الاجتماعیة التي تشكل مختلف النظم والأنساق الاجتماعیة
ولیست الثقافة وأجزاؤها كما ینظر إلى ذلك الأمریكیون.
إن التركیز على قضیة النظم الاجتماعیة ینتج تخصصات أنثروبولوجیة بعدد هذه النظم ذاتها
فیكون لدینا مثلا :
نظام دیني أنثروبولوجیا دینیة
نظام تربوي أنثروبولوجیا تربویة
نظام سیاسي أنثروبولوجیا سیاسیة
نظام ثقافي أنثروبولوجیا ثقافیة
ویبدو أن الاختلاف في تحدید التسمیة هو اختلاف شكلي، فكل من الأنثروبولوجیا
الاجتماعیة أو الأنثروبولوجیا الثقافیة تؤولان إلى نفس المواضیع خلال عملیة الدراسة، وقد كان
الاختلاف مؤسسا مثلما یرى كلود لیفي ستروس على اعتبارات أكادیمیة، مثلما هو الحال بالنسبة
لمفهوم الأنثروبولوجیا الاجتماعیة الذي تأصل في أنجلترا لضرورة إحداث كرسي جدید تولاه جیمس
فرایزر، كما أن الاختلاف بین ماهو " اجتماعي " وماهو "ثقافي " لیس كبیرا. ، حیث یؤدي
ماهو اجتماعي إلى ماهو ثقافي والعكس، من منطلق أن ماهو اجتماعي یتصور موضوعه قائما
في البنیة الاجتماعیة الكلیة التي تتفكك إلى عناصر ثقافیة مكونة لها، وماهو ثقافي ینطلق من
هذه العناصر الثقافیة (سلوكات – عادات – وسائل...الخ) وصولا إلى البنیة الكلیة للمجتمع.

وعلى هذا الأساس تتأسس كل من الأنثروبولوجیا الاجتماعیة والانثروبولوجیا الثقافیة وتحددان
منطلقهما الأساسي، فالأنثروبولوجیا الاجتماعیة تنطلق في العمل بدءا من الكل (البنیة الاجتماعیة)
أو على الأقل إعطاء الأولویة للكل على الأجزاء مقابل الأنثروبولوجیا الثقافیة التي تعمل عكس
ذلك حیث تعطي الأولویة للأجزاء (العناصر المادیة والمعنویة للثقافة كاللباس والسلوك والعادات
( والمنتجات...الخ) لتصل إلى فهم البنیة الكلیة للمجتمع. ( 1
وبالإضافة إلى هذین التسمیتین یمیل الفرنسیون أكثر إلى استخدام مصطلح "إثنولوجیا "
وأحیانا " إثنوغرافیا" للتعبیر عن الجانب الثقافي ویدرسونه تحت مظلة علم الاجتماع، كما تستخدم
كلمة " انثروبولوجیا في ألمانیا للإشارة إلى " الدراسة الطبیعیة للشعوب " وتستخدم بدلها كلمة "
إثنولوجیا " لتشیر إلى " علم الشعوب" أي إلى الجوانب الاجتماعیة والثقافیة في الإنسان، كما یشیع
في معظم دول شرق أوروبا مصطلح " إثنوغرافیا " للدلالة على الجانب الاجتماعي والثقافي
( المتصل بالتنظیم الاجتماعي ومشكلة العرق والطبقات. ..الخ.