علاقة الأنثروبولوجیا بالعلوم الأخرى هناك علاقة وطیدة بین علم الإنسان وباقي العلوم الأخرى سواء تلك التي تنتمي إلى حقل العلوم الإنسانیة والاجتماعیة أو التي تنتمي إلى حقل العلوم الطبیعیة، فشمولیة الدراسة في مجال الأنثروبولوجیا وتغطیتها للعدید من المجالات جعلها تتقاطع مع حقول معرفیة أخرى تتقاسم معها المجالات ذاتها، أو تتبادل معها المعلومات والمعارف التي یوفرها فرع معرفي معین بمثابة قاعدة وأساس للانطلاق في الدراسة بالنسبة لفرع معرفي آخر، ذلك ما یبدو مثلا في اعتماد الباحث الأنثروبولوجي على ما یوفره عالم الآثار من معلومات على الشعوب الغابرة، ولبیان العلاقة بین الأنثروبولوجیا وغیرها من العلوم نحاول إیراد بعض الأمثلة على ذلك. علاقة الأنثروبولوجیا بالبیولوجیا (علم الأحیاء) هناك تداخل واضح بین الأنثروبولوجیا والبیولوجیا، ومرد هذا التداخل على وجه الخصوص إلى اعتماد الأنثروبولوجیا حین نشأتها على نظریة التطور البیولوجي التي تزعمها " تشارلز داروین"، والعمل على وصف الثقافة والمجتمع من منطلق هذه الخلفیة التطوریة. لقد كان هربرت سبنسر رائدا لهذا النزعة التطوریة حیث ماثل بین تطور الكائن الحي وتطور المجتمع البشري، متأثرا بنزعة التطور في البیولوجیا، فنمو جسم الإنسان ینطلق من خلیة ثم ینمو لیصبح جسما مكتملا مشكلا من العدید من الأعضاء التي تؤدي وظائف تحفظ توازن واستمرار الإنساني بما یشبه تماما نمو المجتمع البشري الذي یبدأ بأسرة ثم یتوسع إلى عشائر وقبائل تشكل ( مجتمعا كبیرا. ( 1 ویعزي البعض بدایة الأنثروبولوجیا المتخصصة إلى هذا التماثل بین التطور البیولوجي والتطور الثقافي، وقد أدى الربط بین البیولوجیا والأنثروبولوجیا وخاصة في جانبها الفیزیقي إلى تسمیة الأنثروبولوجیا البیولوجیة ب" البیولوجیا الإنسانیة "، بالإضافة إلى هذا نجد أن الرجوع إلى البیولوجیا بالنسبة للأنثروبولوجیین قد ساعد كثیرا في فهم الأسس البیولوجیة للسلوك الثقافي ( للإنسان. ( 2 أما فیما یخص موضوع كل منهما فإنهما یشتركان في العمل على فهم التنوع والاختلاف، فإذا كان موضوع البیولوجیا یركز على محاولة فهم التنوع والاختلاف الجیني، فإن محاولة فهم الاختلاف الاجتماعي هو المقصود من الدراسات الأنثروبولوجیة، ( 3) كما یمكن لموضوع السلالة والعرق أن یوحد بین البیولوجیا والأنثروبولوجیا من خلال عملیة التصنیف وتحدید الخصائص البیولوجیة والثقافیة لهذه السلالات والأعراق. علاقة الأنثروبولوجیا بالجیولوجیا والجغرافیا : تساعد الدراسات في مجال الجیولوجیا (علم طبقات الأرض) في تحدید الفترات الزمنیة التي عاش فیها الإنسان، وذلك بتتبع البقایا العظمیة لإنسان ما قبل التاریخ، التي یتم الحصول علیها في ثنایا القشرة الأرضیة الرسوبیة والمنضدة بعضها فوق بعض، وفقا لخاصیة النشوء والتقادم حیث یكون أسفلها أقدمها وأعلاها أحدثها، كما یمكننا هذا أیضا من معرفة طبیعة الحیوانات التي كانت مرافقة لذلك الجنس البشري من خلال البقایا العظمیة للحیوانات التي كانت ترافقه في نفس البیئة ( الجغرافیة. ( 1 ویعمل الجیولوجي على تزوید الأركیولوجي (عالم الآثار) بعمر الأشیاء التي یعثر علیها، فالجیولوجي یستطیع أن یحدد بعض البقایا الثقافیة التي یعثر علیها في بعض الشقوق الأرضیة أو ( في بعض الترسبات أو في بعض الطبقات الأرضیة التي تنتمي إلى عصر جیولوجي معین، ( 2 ویستفید الأنثروبولوجي من المعلومات التي یقدمها الجیولوجي أو الأركیولوجي من خلال تكوین معرفة بالإنسان القدیم ومقارنة خصائصه الفیزیقیة والثقافیة بالإنسان الحالي، وكذلك من خلال رصد مختلف المراحل التطوریة للجنس البشري. بالإضافة إلى استفادة الأنثروبولوجي من الجیولوجي تشكل المعطیات الجغرافیة خلفیة أساسیة في تفسیر الأنثروبولوجي للسلوك البشري ولعادات وطبائع الأفراد والجماعات، فالعوامل الجغرافیة من تضاریس ومناخ وبیئة. .الخ لها تأثیر واضح على سلوك البشر، لذلك نجد، " الأحوال المعیشیة والبنى الاجتماعیة عند المجتمعات البشریة لیست متشابهة بسبب تباین الظروف الجغرافیة التي توجد في تلك المجتمعات، فسكان المناطق الجبلیة المرتفعة یكونون في مأمن عن الأخطار الخارجیة بینما یتعرض سكان السهول دوما إلى غزوات واجتیاحات. .، وفي المقابل یكون سكان المناطق الساحلیة أكثر انفتاحا في علاقاتهم مع العالم الخارجي. ." ( 3)، ویمكن الرجوع في هذا إلى نظرة ابن خلدون في ربطه بین البیئة والسلوك الإنساني حیث تؤدي البیئة والتضاریس إلى تشكیل نوع معین من السلوك. -3 علاقة الأثروبولوجیا بالفلسفة : إذا كانت الفلسفة كما یرى أرسطو هي " علم المبادئ والأسباب الأولى غایتها البحث عن الحقیقة برمتها وبأكثر أسالیب الفكر نظاما وتماسكا " فإنها تشترك مع الانثروبولوجیا في عملیة البحث عن الحقیقة، هذه التي تتمثل على وجه العموم في محاولة معرفة طبائع الأشیاء وحقائق الموجودات والأسباب التي أدت إلى وجودها، كما تشترك الفلسفة مع الانثروبولوجیا فیما یتعلق بنظرة الإنسان إلى الكون والحیاة وتفكیره الدائم في الوجود وما وراء الوجود، وكذلك فإن اشتراك الفلسفة والأنثروبولوجیا قائم في البحث الدائم لمعرفة أصل الإنسان ونشأته وقضایا الحیاة والموت ( والتدین. .الخ. ( 1 غیر أن اشتراك الفلسفة مع الأنثروبولوجیا في عملیة البحث عن حقیقة الأشیاء لا ینفي اختلافهما في المنهج الذي یتبعه كلا الفرعین المعرفیین في الوصول إلى هذه الحقیقة، فالفلسفة ذات منهج عقلي ترمي إلى تحصیل معارف ومعلومات من خلال عملیة التأمل وبالرجوع إلى العقل وحده، أما الانثروبولوجیا فتخالف ذلك تماما، إذ تؤسس أبحاثها على البحث الحقلي المیداني، لكن هذا لاینفي اعتماد الأنثروبولوجي على العقل خاصة في بناء مناهج وتقنیات البحث، وتحلیل وربط المعطیات بعضها ببعض، والقیام باستنتاجات عقلیة في الوقت المناسب. -4 علاقة الأنثروبولوجیا بعلم الاجتماع : هناك علاقة وطیدة بین الأنثروبولوجیا وعلم الاجتماع فكلاهما یتناول السلوك الإنساني بالدراسة، كما یركزان على عملیات التفاعل التي تحدث بین أفراد المجتمع واتخاذ العلاقات الاجتماعیة التي تحدث داخل جماعة معینة محلا للملاحظة من قبل السوسیولوجي والأنثروبولوجي على سواء، وكذلك الاهتمام بالنظم الاجتماعیة المختلفة مثل النظام الدیني والنظام السیاسي والنظام الاقتصادي. .الخ، هذا ما جعل أحد رواد الانثروبولوجیا الاجتماعیة وهو رادكلیف براون یصرح بأنه یمكن اعتبار الأنثروبولوجیا الاجتماعیة فرعا من فروع علم الاجتماع، بل وقد اعتبرها بمثابة علم الاجتماع المقارن. غیر أن الأنثروبولوجیا في عمومها باعتبارها تتناول الإنسان بالدراسة من كل جوانبه الطبیعیة والاجتماعیة والثقافیة أشمل نوعا ما من علم الاجتماع الذي یركز اهتمامه على الجانب الاجتماعي والثقافي فقط، بینما تشكل مباحث الانثروبولوجیا الفیزیقیة إضافة قیمة لمجال الأنثروبولوجیا على وجه العموم. ویبدو الاختلاف قائما بین الأنثروبولوجیا الاجتماعیة وعلم الاجتماع في تركیز الانثروبولوجیا على دراسة المجتمعات التي تسمى " بدائیة " وبالمقابل اهتمام علم الاجتماع بالظواهر والمشكلات الاجتماعیة داخل المجتمعات المعقدة، هذا الذي جعل الانثروبولوجیا تتناول المجتمعات المدروسة في كلیتها باعتبارها مجتمعات صغیرة الحجم، فتتناول مثلا نظامها الدیني والقرابي والسیاسي وتغوص في تحلیل عاداتها وتقالیدها وأنماطها السلوكیة وأشكالها التعبیریة. .الخ، وفي المقابل كان اتجاه علم الاجتماع نحو دراسة المجتمعات المعقدة كنوع من التناول الجزئي للمشكلات والظواهر مثل مشكلات الأسرة والطلاق والجریمة والبطالة. .الخ غیر أننا الیوم بصدد نوع من التقارب بین الأنثروبولوجیا وعلم الاجتماع فقد ضاقت الحدود بینهما وتلاشت الفروق إلى حد لم فیه التفریق واردا في كثیر من المواضع، فقد تقلص اهتمام الأنثروبولوجیین بتلك المشكلات التقلیدیة في الأنماط المجتمعیة البدائیة كدراسة نظم الزواج والشعائر الدینیة المرتبطة بالطوطم، وأصبحت هناك دراسات انثروبولوجیة حقلیة لكثیر من مشكلات المجتمع الصناعي كمشكلة الهجرة والصراع العرقي والتنمیة الاجتماعیة والانحراف والتربیة. .الخ، وبالمقابل هناك مزید من الاهتمام في الدراسات السوسیولوجیة بالمجتمعات المحلیة ( الصغیرة ونظمها الاجتماعیة، ولعل مساهمات علم الاجتماع الریفي خیر دلیل على ذلك. ومن الخصائص الأساسیة للبحوث السوسیولوجیة التقلیدیة اعتمادها على المعلومات الكمیة عند عملیة التحلیل والمقارنة في مقابل البحوث الأنثروبولوجیة التي تمیزت باعتمادها على البحوث الكیفیة التي تستند بوجه خاص إلى تطبیق تقنیة الملاحظة بالمشاركة، غیر أن الأمر أصبح مختلفا الیوم في ظل الاتجاه المتزاید للأنثروبولوجیین نحو استخدام الأسالیب الإحصائیة، هذا الذي یزید من تقارب الأنثروبولوجیا وعلم الاجتماع إلى الحد الذي یجعل التفریق بین الدراسات في كلا ( الحقلین المعرفیین أمرا صعبا. ( بالإضافة إلى هذا تتمیز الدراسات الأنثروبولوجیة عن غیرها من الدراسات التي تتناول الظواهر والنظم الاجتماعیة بأنها دراسات حقلیة (میدانیة) حیث یقیم الباحث بین الجماعة التي یدرسها لفترة زمنیة محددة حددها بعض العلماء بأنها لا تقل عن سنة حتى یستطیع أن یلاحظ عن قرب طریقة حیاة هذه الجماعة، غیر أن الدراسة الحقلیة لا تقتصر على المجتمعات التقلیدیة ولكنها ضروریة ( أیضا عند دراسة الأنثروبولوجي للمجتمع الصناعي مثلا. علاقة الأنثروبولوجیا بعلم النفس : یهتم علم النفس بدراسة الأفراد بوصفهم وحدات مستقلة قائمة بذاتها، وذلك من خلال تسلیط الضوء على بعض الجوانب مثل الدوافع والاتجاهات والذكاء والشخصیة. .الخ، عكس ( الأنثروبولوجیا التي تهتم بالسلوك الجمعي ولا تركز اهتمامها على الأفراد. ( 3 وتعتبر الثقافة الموضوع الأساسي الذي تسعى الأنثروبولوجیا إلى فهمه، غیر أن هذا الفهم غیر متاح دائما من خلال تفسیر الثقافة في ذاتها، لذلك نجد علماء الأنثروبولوجیا یرجعون إلى علم النفس من أجل فهم الظواهر الثقافیة، ویرتبط هذا الاتجاه بالإثنولوجیا وهو اتجاه قدیم ظهر في كتابات عدد كبیر من علماء القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرین ممن كانوا یلجؤون إلى الاستبطان لمعرفة أصل الثقافة البدائیة ونشأتها، وخاصة ما یتعلق بالدین والشعودة والسحر والأساطیر، وفي هذا السیاق كان مالینوفسكي یرى أن الدین ینشأ في أوقات الأزمات التي تمتاز بشدة الانفعالات مثل حالات الوفاة، لذلك یصبح الدین بمثابة وسیلة للسیطرة على تلك الأزمات. 1) أي أثر العادات والتقالید والقیم والمعاییر وأسالیب التنشئة في تشكیل شخصیات الأفراد، ) وبالمقابل أثر الشخصیة في الثقافة من خلال الأدوار التي یؤدیها القادة وأصحاب " الكاریزما" في ( توجیه الثقافة السائدة، وذلك بما یتمتع به هؤلاء القادة من أفكار وأیدیولوجیا وقوة. .الخ. ( 2 وأخیرا فإن الأنثروبولوجیا تمتد لتربط خیوطها مع كثیر من الفروع المعرفیة، وهي ذات صلة وثیقة بكثیر منها، فهي ترتبط بالتاریخ والسیاسة والتربیة والاقتصاد وغیرها، ولكننا اقتصرنا على بعض الفروع لبیان بعض أوجه الاعتماد المتبادل بین الأنثروبولوجیا وغیرها من العلوم وفروع المعرفة الأخرى.